
البلوزة القمراية في جربة
- Habib ouja
- 24 يونيو
- 2 دقيقة قراءة
البلوزة القمراية ليست مجرد قطعة قماش تُرتدى في المناسبات، بل هي اختزال لهوية مجتمع بأكمله. في جزيرة جربة، حيث تنسج الفسيفساء البشرية خيوطها مع الحرف الضاربة في جذور التاريخ، تبرز البلوزة القمراية كرمز للأناقة البسيطة والانتماء العميق، لباس رجالي يُلبَس بفخر ويجمع في خيوطه بين الأصالة والرمزية الاجتماعية.
هذه البلوزة، بِقَصَّتها الواسعة ونسيجها المتماسك، توحّد بين الطبقات. يرتديها الغني والفقير في حفلات الزفاف والمناسبات العائلية فتذوب الفوارق الإجتماعية ويعلو شعور بالانتماء المشترك. إنها زيّ الصيف الرسمي، لا لحرارة الطقس فحسب، بل لأنها تمنح للجسد حرية الحركة وللروح راحة الارتباط بالهوية.
خياطة البلوزة فن بحد ذاته. فهي ليست مجرد مهنة حرفية، بل طقس من طقوس الإبداع والصبر والحفاظ على الذاكرة الجمعية. الحرفي لا يكتفي بخياطة قماش، بل ينسج في كل "غرزة" قصةً من تاريخ جربة، من خلال مهارته التي ورثها عن آبائه، وعنهم عن أجدادهم. عائلات مثل صانصة وبن موسى كرّست عمرها لهذا الفن، حتى أصبح اسمها علامة ثقة وجمال.
وما أجمل أن نرى هذا التراث يزدهر حين تذوب الحواجز بين مكونات المجتمع الجربي. فقد أبدع في خياطة البلوزة حرفيون من اليهود الجرابة، كـ مقيقص شباح ويوسيف، الذي أفنى أربعة عقود من عمره في خياطة البلوزة القمراية بكل حبٍ واعتزاز، رغم أنه لا يلبسها شخصيا، باعتبار أن زيّ يهود جربة التقليدي يتمثل في البلوزة المفروقة المصنوعة من الكتان والمفتوحة بأزرار أمامية. لكن علاقة يوسيف بالحرفة تجاوزت الارتداء لتصبح لغة تواصل، ربطته بعشرات الحرفاء المسلمين، فخلق جسرا من الاحترام والود بين مكونات المجتمع الواحد.
البلوزة القمراية إذن ليست مجرد لباس يُرتدى ثم يُخلع، بل هي ذاكرة حيّة تُلبَس بفخر. هي انعكاس لفنٍ عريق، وصورة مصغّرة عن تناغم الثقافات في جزيرة احتضنت الجميع ودوّنت عبر أزيائهم حكايات الزمن الجميل. إنها تذكير بأن التراث لا يعيش في المتاحف فقط، بل في نبض الحياة اليومية، وفي تفاصيل خيوط تروي أكثر مما تقول
Comments