top of page

حين يصير جذع النخلة قصيدة معمارية

في قلب البيوت الجربية القديمة، يبرز السنور كعنصر أساسي لا يقتصر دوره على دعم السقف بل يتعداه ليعبّر عن فلسفة بناء تنبض بانسجام عميق مع البيئة. فجذوع النخيل التي تنتشر في جزيرة جربة لم تكن مجرد مشهد طبيعي بل مصدرا للبناء ووسيلة للحياة. تحت ظلالها تُروى الأرض، وتُحمى من التآكل، ويُلطّف الهواء، ومنها استلهم الحرفي الجربي هذه القطعة الخشبية المقوّسة التي أصبحت أساسا معماريا ثابتا.

يُقطع جذع النخلة بعناية إلى نصفين، ليصبح كل جزء أشبه بنصف أسطوانة لا يتجاوز طوله غالبا مترين، ثم يُرصُّ فوق الجدران لخلق سقف عازل للحرارة، مقاوم للرطوبة، ومناسب تماما لمناخ الجزيرة. ويُغَطّى لاحقا بطبقات من التراب والطين والجبس، وأحيانا بضريع البحر، لتكتمل بذلك عملية بناء ذكية وفعالة. الجميل أن تصميم الغرف ذاتها داخل "الحوش" الجربي يُراعي أبعاد السنور، ما يعكس وعيا معماريا لا ينفصل عن خصائص المادة الطبيعية.

ومن الداخل، يمنح طلاء الجير الأبيض السقف إشراقا بصريا بديعا، تتفاعل فيه البساطة مع النقاء. ولا يقتصر حضور السنور على الأسقف فقط، بل يُدمج أحيانا في تكوين فتحات النوافذ، خصوصا في الواجهة المعروفة باللانتو(ترجمة حرفية عن الايطالية)، حيث يعمل كدعامة أفقية تضيف للفراغ المعماري استقرارا ومرونة. كما قد يُوظّف كعنصر زخرفي عفوي لكنه يعكس الهوية البصرية المحلية. وهكذا، يتجلى السنور كمظهر من مظاهر الذكاء في البناء والاستدامة، حيث تتداخل فيه وظائف معمارية وجمالية وبيئية. إنه خلاصة فكر يعتمد على ما تمنحه الطبيعة دون إثقالها، وعلى احترام دوراتها، من النخلة التي تمنح الثمار والظل والسعف، إلى السنور الذي يرفع السقف ويصون حرارة البيت، في حوار صامت بين الإنسان وبيئته، ولكنه بالغ الدلالة والعمق.



Comentarios

Obtuvo 0 de 5 estrellas.
Aún no hay calificaciones

Agrega una calificación
bottom of page