
حومة السوق كما كانت
- Habib ouja
- قبل يوم واحد
- 4 دقيقة قراءة
تنتشر في مركز وأحياء حومة السوق عشرات الجوامع والزوايا، لكل منها تاريخ وحكاية . ومن بين هذه المعالم، زاوية سيدي بن عيسى التي كانت، حتى حدود السبعينيات، بمثابة القلب النابض لحومة السوق، إذ احتضنت كتابا وكانت منطلقا لاحتفالات المولد النبوي.
يتذكر حسن بالراجح تلك الأجواء حينما كان طفلا يتسلل مع مجموعة من أقرانه، في غفلة عن الأهل، للذهاب إلى الزاوية، حيث كانت الاحتفالات تستمر سبعة أيام، وتعدّ أبرز عروضها العيساوية. كان عناصر من أتباع الطريقة المدربين يقدمون ألعابا خطرة بدت أشبه بالسحر في عيون الأطفال: إخراج اللهيب من الأفواه، أكل ضلف الهندي، غرز الإبر الكبيرة في الوجه والرقبة، و"التململ" فوق هشيم الزجاج. ورغم أن هذه العروض كانت تعتبر استهتارا أو جهلا في نظر البعض، فإنها تعكس مدى التخمر الروحي لدى مريدي العيساوية وعمق تغلغل الطرق الصوفية في المجتمع آنذاك. وينتمي أصحاب هذه المهارات إلى مجموعتين في حومة السوق: مجموعة سيدي بن عيسى، وهي المقر الرسمي، ومجموعة سيدي منصور الفرعية ببني باندو. ومن العائلات المعروفة في هذا السياق: بالاشهب، بوعجيلة، التونسي، الطبجي، والطرابلسي.
كما تشمل هذه الاحتفالات عروض الزقارة، إلى جانب ألعاب الفروسية التي كانت تقام في سانية المقدميني. وكانت الأنشطة تنطلق من الزاوية، التي كانت تحيط بها مقبرة واسعة تمتد إلى حدود بوعكازين، وتشغل مساحتها اليوم تجمع البناءات الذي يضم مقر الرصد الجوي.
في الجوار، كان بوعكازين يتكوّن من قبة بتابوت، وبيت صغيرة للصلاة، وثلاثة دكاكين، إضافة إلى بئرين: الأولى للماء، والثانية مزار للأمهات اللواتي فقدن أخبار أبنائهن المغتربين. هناك تقام طقوس خاصة فتنزل أم المغترب أو زوجته رأسها في البئر وتكرر النداء عليه، مستجدية رجوعه ومتوسلة بالولي الصالح بوعكازين. وكان هذا المكان مقصدا للزوار من مختلف أنحاء الجزيرة، حيث تجتمع فيه العائلات في أجواء احتفالية تتخللها الزرد
وغير بعيد عن الزاوية، يشهد جامع الغرباء حركية وخاصة خلال المولد النبوي فتنظم فيه احتفالية ختان جماعي للأطفال. غير بعيد عنه ،جامع الشيخ وجامع الترك، اللذان كانا يشهدان بدورهما نشاطا دينيا واجتماعيا ، مما يعكس أهميتهما الروحية عند "السواقة" (من التسميات التي تطلق على سكان حومة السوق).
كما أدّت زاوية سيدي عبد القادر وزاوية سيدي الزيتوني دورا تربويا وروحيا بارزا، إذ احتضنتا حلقات الذكر والتعليم. ولا يمكن إغفال المكانة الروحية لعديد المعمورات، ومنها معمورة بالراشد بالجوامع، التي كانت مزارًا للعرائس قبل دخولهن للحجبة.
وإلى جانب المعمورات، توزعت على أحياء حومة السوق قباب تزورها العائلات للتبرك وطلب العلاج من بعض الأمراض، حيث اشتهر كل ولي صالح بمعالجة مرض معين. ومن أشهر هذه المزارات قبة الحاج مسعود الواقعة بطريق المطار، وكان مختصا في معالجة أمراض العيون، ومنها الرمد والحساسية. فكانت الأمهات يقصدنه، فيضعن داخل القبة ما تيسر من قطع النقود و"التبثبيثة" (دقيق الزميطة مبثبث في الزيت)، ثم يأخذن حفنات من التربة تحت زيتونة بالمكان، فيخلطنها بالزيت ويضعنها كضمادات على العينين العليلتين، وكان ذلك علاجا موثوقا عند العائلات يفوق علاج أمهر الأطباء.
كما اشتهرت قباب أخرى في حومة السوق، منها خصوصا قبة سيدي الدخلي قرب جامع بوسعيد ببوملال، وقبة حلولو وراء القباضة المالية اليوم.
لقد تنوعت وظائف حومة السوق باعتبارها المركز الاداري والاقتصادي للجزيرة وقد ساهم تداخلها في صنع نسيج حضري نشيط، امتد عبر شبكة من الفنادق التقليدية التي بلغ عددها نحو عشرين.
لم تكن هذه الفنادق مجرد فضاءات للإيواء، بل ايضا مراكز لتجارة الفخار والصوف، وورشات للنسيج، ومربطا للدواب. وقد استقطبت هذه الفنادق جاليات متعددة من الاروبيين أُمَّالِطْ(مالطيون) وطلاين وفرنسيس وقريق (يونانيون)، الذين وفدوا للعمل في الحرف أو الصيد أو التجارة، فكان لكل فندق حكاية، ولكل اسم ذاكرة.
لا تزال أسماء هذه الفنادق اليوم تخلد ساكنيها القدامى أو تُشْهِر مالكيها الجدد ، مثل فندق المالطي، بوشداخ، بن غربال، وبركالله، وارتبط بعضها بالوقف، كفندق الجمني الذي كان حبسا لجامع سيدي إبراهيم الجمني قبل ان يتم التفويت فيه أما فندق بن شقرة، فقد فقد وظيفته الأصلية ، في حين تحوّل بعضها إلى نشاط سياحي، مثل فندق المرحلة ومضيف الشباب، في دلالة على تحوّل المدينة وتكيّفها مع الزمن.
حول هذه الفنادق، كانت المقاهي قليلة العدد لكنها غنية بالحضور الاجتماعي، تعج بروادها من مختلف الشرائح، وتشكل نقاط تلاقي يومية تنبض بالحياة. من بين هذه المقاهي: قهوة الزراع، الحاج حسن، chaise longue(الجردة)، بوعبيد، رواي، الطاهر بن دعماش، والصادق بن دعماش، في كل واحدة منها كانت تختلط الأحاديث اليومية بالصفقات التجارية.
أما المخابز، فقد تجاوز عددها الثمانية، منها خمس قرب حمام سيدي إبراهيم، وأشهرها كوشة بربو، واثنتان على ملك هاماني، إحداهما أصبحت لاحقا ولا تزال ملك بن عطية .
في تلك الحقبة لم تكن المدينة بعيدة عن الحداثة، فقد ظهرت قاعات السينما في وقت مبكر، أولها بجانب مقهى رواي (محل لي كوبر حاليا)، ثم انتقلت إلى مبنى بجانب المطعم المركزي، قبل أن تستقر بجانب الكنيسية، مما أضفى على المدينة طابعًا عصريًا مبكرا.
من جهة أخرى، شكّلت رحبة السوق الممتدة من بوعكازين إلى داخل السوق، حيث توجد اليوم محطة اللواجات وفضاء'كراميش ومقر التونيسار ، فضاء اقتصاديا نابضا، خصص للساعي (المواشي) والصوافة (باعة الصوف)، في مشهد يعكس الحيوية التجارية وتنوع الأنشطة المرتبطة بالمعيش اليومي.
كامل محيط مقهى حاجي اليوم كان ملكا عموميا ، يضم البطحاء التي ينتصب فيه الباعة يومي السوق الاسبوعية والمرشي في بناء يشبه الحوش التقليدي، جمع الحواتة والخضارة والجزارة، وخارجه صفوف من الدكاكين بلغ عددها قرابة 12، منها حوانيت العطرية، مكتبة، ونقاط بيع خبز.
أما سوق الربع، فكان مخصصا للبلاغجية وباعة اللفة والحوكة، ومنه يتجه الزائر نحو سوق الصاغة، حيث اغلب الحرفيين من اليهود ،ثم نهج بنزرت ويضم المطاعم حيث تنتشر روائح الشواء ولحم الفكرون ومرقة الفول واليَهْنِي والكسكروتات عند الطباخة الأسود، القليبي، وبعض اليهود
قبل أن يغزوها الإسمنت، كانت حومة السوق مجالا زراعيا تمتد سوانيها من المحطة إلى بير المقدميني، ومن جهة الشمال إلى مقر التليكوم ومعهد ابن عرفة الأن ، حيث سانية الجبالي وسانية أخرى قرب مقر الشرطة القديم. هذه الأراضي كانت مزروعة بالقصب والأشجار المثمرة، وتسقى من آبار مثل بير الرومي، في شبكة متصلة قبل أن تقطعها المباني والمعبد، مما يعكس طابعا فلاحيا أصيلا كان يميز حومة السوق قبل زحف العمران.
في قلب هذا المشهد، كانت العقارات المبنية في المركز قليلة وكانت غالبتها ملكا للأجانب، خاصة المالطيين، وأشهرها دار Mimi، بينما كانت سراية المعتمدية والبلدية اليوم ومحيطها امتدادا لأملاك عائلة بارينتي.
وقد تجمعت فيها مرافق السيادة في بناء شبه مغلق يشبه الفندق يضم المعتمدية والمحكمة والسجن،
كانت المعتمدية في عهد الاستعمار مقرا لسلطة الحماية المحلية أما البلدية فقد كان مقرها مجاورا لزاوية سيدي عبد القادر .
تعليقات